بحث هذه المدونة الإلكترونية

تعريف التصوف عند أرباب العلماء وصفوتهم




  تعريف التصوف عند أرباب العلماء وصفوتهم 

تعددت الأقوال وكثرت في تعريف معنى التصوف ولكن جميع هذا الأقوال تنصب في منبع واحد وتخرج من مشكاة واحدة وتعدد الأقوال في هذا العلم يثبت حقيقته العالية والراقية لدى العلماء وتبين كم هو علم جليل وسامي رفيع ، ولو لم يكن كذلك لما تفنن العرَّافين في تعريفه فهو أكثر العلوم في معانيه إذ كل الأقوال تستخرج اشتقاقاتها من أوصاف حسنة وهذا ينطبق على المعنى اللغوي أو الاصطلاحي أو العرفي لأن جميع من تناول التصوف بالتعريف ذكروا له أوصاف جليلة وراقية مما يدل على علو شأن هذا العلم ورفعته واختلافهم في وصفه جاء من اختلاف الرؤى لهذا الأمر العظيم فكل من وصفة وصف جهة معرفته وتذوقه له كما لو اجتمع قوم حول جبل شاهق عظيم وأرادوا وصفة فكل واحد مهم يصفه من جهة ما يرى ويلمس ويدرك وقد تختلف الأوصاف بشكل ما ولكنها جميعا تؤكد وصفا لشيء هائل وكبير فلذلك جمعنا أهم التعريفات لهذا العلم الجليل ومن خلالها يتجلى بوضوح معنى التصوف واليك هذه التعريفات :

 قال القاضي شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحم الله تعالى ( التصوف علم يعرف به أحوال تزكية النفوس وتصفية الأخلاق وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية ) هامش الرسالة القشيرية ص 7

 ويقول الشيخ احمد بن زروق رحمه الله تعالى في كتاب (قواعد التصوف قاعدة 13  التصوف علم قصد لإصلاح القلوب وإفرادها لله تعالى عما سواه والفقه لإصلاح العمل وحفظ النظام وظهور الحكمة بالأحكام والأصول وعلم التوحيد لتحقيق المقدمات بالبراهين وتحلية الإيمان بالإيقان كالطب لحفظ الأبدان وكالنحو لإصلاح اللسان إلى غير ذلك )

 وقال سيد الطائفتين الأمام الجنيد البغدادي رحمه الله تعالى كما ورد في كتاب النصرة النبوية للشيخ مصطفى المدني ص 22 ( التصوف استعمال كل خلق سني وترك كل خلق دني )

 ويقول الإمام أبو الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى كما جاء في كتاب نور التحقيق للشيخ حامد صغر ص 93( التصوف تدريب النفس على العبودية وردها لأحكام الربوبية )

 وقال ابن عجيبة رحمه الله تعالى : (التصوف هو علم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك , وتصفية البواطن من الرذائل وتحليتها بأنواع الفضائل وأوله علم وأوسطه عمل وآخره موهبة)

 وقد ذكر الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء تعريفا للتصوف في كل ترجمة من تراجم كتابه تقريبا وفي كتابه أكثر من ألفي ترجمة

 قال سمنون : التصوف ان لا تملك شيئا ولا يملكك شي الرسالة القشيرية 2/552

 وقال معروف الكرخي : (التصوف الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق) عوارف المعارف 313

 وقال الكتاني : (التصوف خلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف ) المدخل إلى التصوف المهدلي ص 69

 وقال الشبلي : (التصوف الجلوس مع الله بلا هم ) المدخل إلى التصوف المهدلي ص 70

 وقال عمرو بن عثمان المكي : التصوف ان يكون العبد في كل وقت بما هو أولى به في الوقت ) المدخل إلى التصوف المهدلي ص 71

 وقال أبو عمر بن الجنيد : التصوف الصبر تحت الأمر والنهي المدخل إلى التصوف المهدلي ص72
 وورد عن الجنيد : التصوف عنوة لا صلح فيها والمراد بالعنوة الجد والتعب والمراغمة

 وقال أبو سليمان الداراني : التصوف ان تجري على الصوفي أعمال لا يعلمها إلا الحق وان يكون دائما مع الحق على حال لا يعلمها إلا هو)المدخل إلى التصوف المهدلي ص 79

 وقال ابن خلدون في تعريف التصوف : العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا والزهد فيما يقبل علية الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة )مقدمة ابن خلدون دار القلم ص 467

 وقال بعض العارفين :
 الجد في السلوك إلى ملك الملوك
 وقالوا هو الموافقة للحق والمفارقة للخلق
 وقالوا هو ابتغاء الوسيلة إلى منتهى الفضيلة وقالوا هو حفظ الوفاء وترك الجفاء
 وقالوا : هو الرغبة إلى المحبوب في درك المطلوب
 " وقالوا في تعريفات ( الصوفي )

 قال الأمام أبوعلي الروذباري : هو من لبس الصوف على الصفاء وأطعمه الهوى ذوق الجفاء وكانت الدنيا منه على القفا وسلك منهاج المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم

 وقال الإمام سهل بن عبد الله التستري : الصوفي من صفا من الكدر وامتلأ من الفكر وانقطع إلى الله من البشر واستوى عنده الذهب والمدر

 وقال ذو النون المصري : الصوفي من لا يتعبه طلب ولا يزعجه سلب. مدخل إلى التصوف المهدلي ص 67

 وقال بشر الحافي : الصوفي من صفا الله قلبه

 وقال بعضهم
 علم التصوف علم ليس يعرفه إلا اخـو فطنة بالحـق معروف
 وليس يعرفه من ليس يشـهده وكيف يشهد ضوء الشمس مكفوف

 وبعد أن بينا كل هذه التعريفات للتصوف تجلي بوضوح أنه علم جليل عظيم وكله نابع من مشكاة النبوة وتعاليمها فهو تارة يأتي بمعنى الزهد وتارة بمعنى الأخلاق وتارة بمعنى الصفاء وتارة بمعنى المجاهدة وتارة بمعنى الاستقامة والالتزام بالشريعة وتارة بمعنى التسليم وتارة بمعنى الإخلاص وتارة بمعنى ترك التكلف وكل هذه تتجلى بمعنى واحد وتدور حول مراد واحد وهو تزكية النفس وجعلها كما يريد المولى عز وجل ، وهذا هو التصوف الصحيح وعلى هذا يجب ان يكون وينبغي ان يتوفر فيه كل ما ذكر من الصفات حتى يكون التصوف موافقاً للشريعة الغراء وفق الكتاب والسنة.

 نسبة علم التصوف

 اختلف العلماء في سبب تسمية علم التصوف بالتصوف إلى أقوال كثيرة والذين تحدثوا عن التصوف والصوفية اختلفوا في أصل الكلمة واشتقاقها وكذلك اختلفوا في نسبة الصوفية اختلافاً كبيرا , فالمؤيدين والمعارضين للتصوف لم يتفقوا على نسبة للتصوف ، كما أن الصوفيين أنفسهم لم يتفقوا على شيء من ذلك ولكن سأذكر أشهر الأقوال في ذلك :  

1- من الصفاء : وقد ذهب الكلاباذي إلى أن أصل الصوفية ينتسبون إلى الصفاء وأنهم سموا صوفية لصفاء أسرارهم وشرح صدورهم وضياء قلوبهم (التعرف لمذهب أهل التصوف ص 24 ) .

 وفي هذا أنشد الأمام تقي الدين السبكي لأبي الفتح البستي :
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا - قدما و ظنوه مشتقا من الصـوف
 ولست انحل هذا الاسم غير فتـى - صافي فصوفي حتى لقب الصوفي

 2- وذهب قوم إلى أن كلمة الصوفية نسبة إلى الصوف وذلك لأن النسبة إلى الصوف صوفي وممن رجح هذا القول شيخ الإسلام بن تيمية - رحمه الله - في الفتاوى والسهروردي في عوارف المعارف وابن خلدون في مقدمته وكذلك القشيري - رحمه الله - في رسالته وحجتهم على صحة هذه النسبة : إن الصوف لباس الأنبياء وخاصة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وسيدنا عيسى عليه السلام وهو لباس الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والصوفية المتقدمين رحمهم الله تعالى وأن لبس الصوف هو أقرب إلى التواضع والخمول والذل .
 وقال ابن عجيبة ( هذا الاشتقاق أليقَ لغة وأظهر نسبة , لأن لباس الصوف حكم ظاهر على الظاهر ونسبتهم إلى غيره أمر باطن ,والحكم بالظاهر أوفق وأقرب ) (إيقاظ الهمم في شرح الحكم ).

 3- وقال آخرون إن كلمة الصوفية نسبة إلى أهل الصِّـفة وهم جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ينزلون في مكان خلف الحجرات في المسجد النبوي وعرف المكان باسمهم وكانوا متفرِّغين للعبادة وللمجاورة وهم فقراء المهاجرين الذين ليس لهم مأوى .

 4- وقيل إن التصوف نسبة إلى الاتصاف بالصفات الحميدة وترك الصفات الذميمة ( نشأة التصوف الإسلامي : د. إبراهيم بسيوني ص11 ) .

 5- وقالوا نسبة الصوفية إلى ( سوفيا ) اليونانية ومعناها الحكمة , والقائلين بذلك حجتهم أن القوم كانوا طالبين للحكمة حريصين عليها فأطلقت عليهم الكلمة وعربت أو حُرِّفت فأصبحت صوفية وصوفي . ( نشأة الفلسفة الصوفية ص108 ) .

6- وقيل أنه من الِصفة إذ جُملته الاتصاف بالمحامد وترك الصفات المذمومة .

 7-وقيل أنهم ينتسبون إلى الصفوة باعتبارهم صفوة الله من خلقه وإنهم النخبة المصطفاة من الأمة .

 وفي الختام فإن أرجح الأقوال في نسبة التصوف فهو إلى الصفاء والصوف ومهما كانت نسبة كلمة التصوف فهي غير ضرورية عندما نبين حقيقة التصوف وتعاليمه التي كلها نابعة من تعاليم الشريعة السمحاء .

 ويرى الإمام القشيري ـ في الرسالة القشيرية ص183 : أن التصوف اسم عَلم على طائفة الصوفية بغض النظر عن اشتقاق الكلمة والأصل الذي أُخِذت عنه .
 والذي أراه أن التصوف نشأ نشأةًّ إسلامية مستقاة من النصوص الشرعية في الزهد وترك الدنيا وملذاتها . فلذلك البحث في أصل الكلمة ليس له تلك القيمة التي نقف عليها ولكن المهم الذي نقف عليه هو حقيقة التصوف وقواعده ومنهجه وسلوكه وأقوال روّاده ودراسة أعظم وأرقى رجاله والدفاع عنهم ، ورد شطحات المخالفين والرد على نطحات الحساد بطريقة علمية أدبية و هذا ما سيأتي بيانه ، في مواضيع أخرى ، بعون الله تعالى

 مكانة التصوف بين فروع العلم ونشأته
بداية : اعلموا أخوتي أن الذي جاءنا من التشريع في كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله علية وسلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

أولاً : قسم يتعلق بالعقيدة والتوحيد :والآيات والأحاديث التي جاءتنا في هذا القسم كثيرة جداً وتشمل كل آية وحديث يتكلم في موضوع الإيمان وأركانه وصفات الإلوهية والربوبية والموت وملحقاته والروح والإيمان بالله والملائكة والرسل والكتب السماوية واليوم الآخر والقدر خيره وشره وكل الغيبيات وقد سمي هذا العلم (علم العقيدة _ التوحيد الكلام ).

ثانيا : قسم يتعلق بأعمال المكلف : ويشتمل على علاقته مع نفسه ومع غيره ومع ربه جل وعلا والآيات والأحاديث التي جاءتنا في هذا القسم كثيرة جداً وتشمل كل آية وحديث يتكلم في موضوع الحلال والحرام والمستحب والمكروه والمندوب والمباح ويشمل جميع العبادات والمعاملات والحدود والجنايات والأحوال الشخصية والبيوع والزراعة وأركان الإسلام والحكم والقضاء وغيره وقد سمي هذا العلم ( علم الفقه وأصول الفقه – والأحوال الشخصية )

ثالثاً: قسم يتعلق بنفس المكلف :
 من حيث تزكيتها من كل الصفات الذميمة السيئة وتحليتها بالصفات الحميدة والآيات والأحاديث التي جاءتنا في هذا القسم كثيرة جداً وتشمل كل آية وحديث يتكلم عن الجانب الأخلاقي والآداب الإسلامية قال عليه الصلاة والسلام ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )

 وهذه الأقسام الثلاثة كلها تتجلى في حديث جبريل عليه السلام الذي رواه مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهيئة رجل ليُعلم الصحابة دينهم فسأل عن الإسلام وعن الإيمان وعن الإحسان وكل واحد من هؤلاء يُمثل قسم من العلوم التي ذكرناها ويظهر هذا في قليل من التمعن في حديث جبريل في سؤاله عن الإحسان فيتبين أنَّ التصوف (أصل الإحسان) منبعه وحي سماوي بحديث صحيح متواتر

 وذلك لأن التصوف و بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : هذا جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم ، فالإسلام طاعة وعبادة , والإيمان نور وعقيدة , والإحسان مقام مراقبة ومشاهدة : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . فيجب علينا عدم التراخي بهذا الأصل.

 والقسم الثالث من حديث جبريل (الإحسان) هو القسم الذي يقوم عليه علم التصوف ولو رجعت إلى تاريخ هذه الأمة الفاضلة لوجدت أن العلماء الأفاضل رضي الله عنهم قد تخصصوا في كل العلوم وعلى رأسهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتميز أبو بكر عن سواه بحلمه وخلقه وكرمه وعبادته وإيمانه , وتميز عمر بعدله , وتميز عثمان بحيائه , وتميز علي بقضائه وعلمه , وتميز زيد بالفرائض , وتميز معاذ بن جبل بالحلال والحرام , وابن عباس بالعلم , وابن مسعود بالقرآن , وأبو عبيدة أمين الأمة , وخالد بن الوليد بجهاده , وكذلك سعد بن أبي وقاص مستجاب الدعوة , وعبد الله بن عمرو بن العاص بعبادته , وأبو الدرداء وأبو ذر الغفاري بالزهد , وأبو هريرة برواية الحديث الشريف إلى ماهنالك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين ثم توسعت الأمصار الإسلامية وكبرت رقعة الدولة وكثر المسلمون وكثر العلماء وتخصص التابعون ومن جاء بعدهم بأصناف العلوم فنشأ علم النحو , وعلم الفقه , وعلم التوحيد , والأصول , والتفسير , والحديث , والمنطق , ومصطلح الحديث , والمواريث . فتخصص البعض بعلوم الفقه وأصوله كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والليث بن سعد والشعبي وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم أجمعين , وتخصص البعض بعلم الحديث كمالك والأمام أحمد ويحيي بن معين والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داوود والنسائي وابن ماجة والبيهقي والدار قطني رضي الله عنهم , وتخصص البعض بعلوم الكلام والتوحيد والفلسفة وتنوعت العلوم وانتشرت وكان من أهم العلوم التي انتشرت وتخصص بها البعض هو علم الأخلاق والتزكية وأحوال النفس والزهد والرقائق . وكما كان ابن مسعود معلم للقران وله مدرسته وكذلك ابن عمر وابن عباس وبقية الصحابة كذلك كان لعبد الله بن رواحة وأبو ذر وأبو الدرداء وأبو هريرة مدارسهم في الزهد الذي نشروه بين الناس فأخذه عنهم الحسن البصري , وعروة بن الزبير, وأويس القرني , ثم إبراهيم بن ادم , والفضيل بن عياض , والجنيد البغدادي , والشبلي , وسري السقطي , وذو النون المصري . وهؤلاء هم الذين أسسوا علم التصوف فهو علم كبقية العلوم له أصوله وله أسسه وقواعده وهو نابع من الكتاب والسنة فهو كما قلنا القسم الثالث من علوم الشريعة وهذه هي حقيقته بغض النظر عن ما دخل فيه من بدع وأكدار ومخالفات , المهم أن نشأته وأصوله صحيحة وفق الكتاب والسنة . فالصحابة وإن لم يتَّسموا باسم المتصوفة فقد كانوا صوفيين بأفعالهم وأقوالهم .

واسمع إلى قول ابن خلدون في مقدمته ص 329 : وهذا العلم ـ يعني التصوف ـ من العلوم الحادثة في الملة وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية وأصلها العكوف على العبادة , والانقطاع إلى الله تعالى , والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها , والزهد في مايقبل علية الجمهور من لذة ومال وجاه , والإنفراد عن الخلق , والخلوة للعبادة , وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية
 وذكر في كشف الظنون أن أول من سمي بالصوفي أبو هاشم الصوفي المتوفى سنة خمسين ومائة

وأورد قولاً للإمام القشيري – رحمه الله - : اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَتَسمَّ أفاضلهم بتسمية علم سوى صحبة رسول الله عليه الصلاة والسلام , إذ لا أفضلية فوقها فقيل , لهم الصحابة ثم اختلف الناس وتباينت المراتب فقيل لخواص الناس ـ ممن لهم شدة عناية بأمر الدين ـ الزهاد والعباد ثم ظهرت البدعة وحصل التداعي بين الفرق فكل فريق ادَّعوا أن فيهم زهاداً , فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله سبحانه وتعالى , الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف , واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المأتين من الهجرة .

 بعد كلامي هذا إخوتي وسادتي يتبين لنا أن التصوف ليس بعلم مبتدع ولا مستحدث كما يدَّعي من أنكر التصوف بل هو علم شريف جليل بل يكاد يكون أجَّل العلوم بعد التوحيد الخالص لله وليس علم مستقى من أصول رهبانية ويهودية ونصرانية وشعوذة هندية كما يزعم من زعم يريدون تشويه التصوف والصوفية لإرضاء أهواءهم ورغباتهم الشخصية , أو لفهمهم الخاطأ المغالط لأقوال التصوف وسيأتى معنا في مواضيع أخرى بعض هذه المغالطات والدفاع عنها أو طرحها بأسلوب علمي مستندين على كتاب الله وسنة نبيه ومن أراد الحقيقة اهتدى إليها بإذن الله تعالى.

موضوع علم التصوف وثمرته
 موضوعه علم التصوف هو معرفة الله بالبرهان والشهود والعيان وأحوال القلب والنفس والروح وأفعالها من حيث تزكية النفس وتطهير القلب من صدأ الذنوب وتصفية الروح من أصناف الحسد والحقد والرقي بكل شيئ سامي والوصول إلى الله ومعرفته حق المعرفة . بإنه لا شريك له ، له الحكم والسلطان ، يملك تصاريف الأمور ، خالق الخير والشر .

 فإن غاية التصوف أن يرتقي بالإنسان إلى تهذيب السلوك الإنساني , وكيفية السمو والارتقاء بالنفس البشرية بالتزكية القلبية (ذكر الله ) والتصفية الروحية, عن طريق علاج أمراض القلوب وتصحيح المفاهيم والتصورات ، وتقويم الجوارح وفق ضوابط الشريعة , والسمو الأخلاقي عن ملذات الدنيا وشهواتها للفوز برضا الله تعالى , ونيل سعادة الدارين . ويسعى الصوفي إلى الوصول إلى مرتبة المراقبة وإلى مرتبة الإحسان حتى يكون رقيبه منه ورقيبه عليه وأن يعبد الله كأنه يراه فأن لم يكن يراه فإن الله يراه . فالغاية الكبرى من التصوف هي الوصول إلى مقام الإحسان والفوز بالمحبة والقبول والرضا من الله جل جلاله .
 وقيادة النفوس وعلاج القلوب من أهم أسس وقواعد الإسلام الذي بنا الإسلام قاعدته الأولى

 ولنسمي هذه القاعدة سلوكيات ومبادىء : لقد حثَّ الإسلام على مكارم الأخلاق (أساس التصوف وغايته) مأكداً على أنَّ الأخلاق وحدها هي التي تسمو في قيادة المجتمع فوضِعت المبادىء الأخلاقية حتى كاد لا يخلو باباً من أبواب التشريع إلا وله تطيَّّب من نسيم الأخلاق. لقد كان المجتمع الجاهلي كما أشرنا مجتمعاً مجرداً من الأخلاق إلا القليل منها ولقد وضح رسول الإسلام أحد أسباب ومعالم رسالته حين قال [إنما بعثت لإتمم مكارم الأخلاق] (البيهقي س الكبرى,10/192 ) إن أكبر ما يقوم عليه الإسلام من مبادىء وقواعد هي قواعد الأخلاق وكما تبين لنا من قول النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بُعث ليتمم مكارم الأخلاق ورسالة الإسلام في بدايتها لم تأتي بتشاريع وتكاليف من صلاة وصيام وحج وزكاة بل كانت الرسالة المحمدية في بدايتها مقتصرة بالدعوة إلى توحيد الله عز وجل والدعوة إلى مكارم الأخلاق , وبعد تأسيس دولة الإسلام في المدينة المنورة أصبحت التشاريع تتنزل من عبادات تكليفية , ولو نظرنا إلى أقوال النبي صلى الله عليه وسلم من الحثِّ على مكارم الأخلاق لخرجنا بسفرٍ لا يُعرف مثله من لدن آدم إلى يومنا هذا فعمد إلى المؤاخاة في أول يوم قدم فيها المدينة المنورة بين المهاجرين والأنصار تحلياً بقول الله تعالى {إنما المؤمنون إخوة فاصلحوا بين أَخويكم واتقوا الله لعلكم تُرحمون } (الحجرات /10 )وعمد النبي إلى زرع المحبة والإخلاص فيما بينهم يقول النبي صلى الله عليه وسلم[ مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى سائره بالحمى والسهر] (متفق عليه) أن الإسلام من أهم أهدافه كانت الإصلاح بين الإفراد الدولة الواحدة التي جمعتهم كلمة التوحيد لأن إصلاح الأفراد ُتكوّن المحبة فيما بينهم فنحظى بمجتمع صحيح خالياً من الضغينة .

 فالتصوف موجود من لدن تأسيس الدولة الإسلامية الأولى أي الأخلاق والتطيب من نسيمه وإن اختلفت المصطلحات فالهدف واحد.