بحث هذه المدونة الإلكترونية

التوسل




التوسل
     التوسل كما هو أمر طبيعيي – تقوم عليه الحياة ( الدنيا ) وبه يكون عمارها ، وتنميتها ، ونهضة الأحياء بها ، وتقدمهم حيث يحتاج فيها المزارع للصانع والأخير للعالم ، وهذا لغير – كذلك تقوم عليه الحياة ( العليا ) حيث يستفيد بالتوسل الميت مادام ذلك الميت وبنصوص الشرع حي في قبره يرزق ، ويستبشر كما يفيد بغيره من البشر ، أو الملائكة ، في الحياة الأخرى .

          للمسلم أن ينفع أخاه بشي من عمله ، بل هذا تمام إحسان الرب ورحمته لعباده ، وهي من كمال الشريعة التي مبناها علي العدل والإحسان والتعارف ، وربنا الرحمن أقام ملائكته وحملة عرشه ، يدعون لعباده المؤمنين والمؤمنات .كما أمر نبيه الكريم أن يصلي علي أصحابه في حياتهم وبعد مماتهم ، وكان يقوم علي قبورهم ويدعون لهم .
التوسل لغة:
قال الجوهرى فى صحاحه : الوسيلة ما يتقرب به الى الغير . والجمع : الوسيل الوسائل.والتوسل  التوسيل واحد. وسل فلان الى ربه وسيلة ، وتوسل اليه بوسيلة اى تقرب اليه بعمل.   
التوسل شرعا:
       هو التقرب الى الله بطاعته وعبادته واتباع انبيائه ورسله ، ولكل عمل يحبه الله ويرضاه . قال ابن عباس رضى الله عنهما : إن الوسيلة هى القربة .. وقال قتاده في تفسير القربة : أى تقربوا إلي الله بطاعته ، والعمل بما يرضيه وهكذا ... فإن كل ما أمر به الشرع من الواجبات والمستحبات ، فهو توسل شرعي ووسيلة شرعية .
الأدله على مشروعيته :-
من القرآن الكريم :
1/ قال تعالى : [ يأ أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون ]
2/ قال تعالى : [ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا انفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً (64)] - النساء
3/ قال تعالى : ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلي ربهم الوسيلة أيهم أقرب ) .
من السنة المطهرة :
1/ عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال : [إستاذنت النبى صلى الله عليه وسلم  فى العمرة . فإذن  وقال  : ( لا تنسنا يأخى من دعائك) فقال كلمته ما يسرنى أن لى بها الدنيا  وفى رواية : [قال: أشركنا يأخى في دعائك ] رواه الترمذى .
2/ عن أنس رضى الله عنه قال : [ إن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان إذا قحطوا، استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال : ( اللهم كنا نتوسل إليك نبينا صلى الله عليه وسلم    فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا ) . قال قيسقون ]- رواه البخارى .
3/ عن صفوان بن عبد الله ان صفوان ، قال : [ قدمت الشام  فاتيت أبا الدرداء فى منزله ، فلم أجده . ووجدت أم الدرداء فقالت : أتريد الحج العام ... فقلت : نعم . فقالت : أدع لنا بخير ... فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، كان يقول :
 ( دعوة المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب مستجابه .للمسلم عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير ... قال الملك الموكل : آمين ، ولك بمثل ) قال : فخرجت إلى السوق ... فلقيت أبا الدرداء . فقال لى مثل ذلك . يرويه عن النبى  صلى الله عليه وسلم  ] . أخرجه مسلم .
أقسام التوســل :-
وينقسم التوسل إلي ثلاثة أقسام :-
1/ توسل المؤمن إلى الله تعالى : بذاته العليه وبأسمائه الحسنى ، وبصفاته العلى .
2/ توسل المؤمن إلى الله تعالى بأعماله الصالحة .
3/ توسل المؤمن إلى الله تعالى بدعاء أخيه المؤمن له .

       فمن البديهى ان يرغب كل مؤمن بالدعاء إلى ربه ، مقدماً بين يدى دعائه وسيلة يرضى الله عنها . وان كل داع إلى الله تعالى يود فى صميمه استجابة دعائه وحصوله على مطلوبه من الدعاء، فلكى يحصل على هذه الأمنيه . فعليه سلوك الطرق الشرعية المؤديه إلي بلوغ أمنيته الغالية، وليس من طريق شرعى أدل على شريعته من طريق يسلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، ويختاره لنفسه ولامته .

       وها هو يعلمنا ان نسلك هذا الطريق الذي هو أقرب الطرق إلي استجابة الدعاء ، فمن يسره الله تعالى إليه فيكون قد يسره لليسرى [ فأما من أعطى وأتقى وصدق بالحسـنى فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى ، وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى (10)] - الليل .

              على ضوء هذا العلم والإعتقاد ، عمل الصوفية خاصة والمسلمون عامة بمفهوم قوله تعالى : ( فلا تدع مع الله أحداً  ) وقوله : ( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ) وقوله : ( فلا تدع مع الله إله آخر ) . وعلى ضوء نفس العلم والإعتقاد المذكور ، عملوا كذلك بمفهوم قول رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم  : ( إذا سألت فسأل الله وإذا إستعنت فإستعن بالله ) . 

          أن منهج المسلمين في التوسل بالاحياء والجمادات هو ذات المنهج الذي: جعل سيدنا يعقوب يعد ابناءه بالتوسل لهم لدي الله ليغفر لهم فيقول : ( سوف استغفر لكم ربي انه هو الغفور الرحيم ) وجعل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم  يأخذ من أموال أمته صدقة ليطهرهم ويزكيهم بها ، ويشفع لهم لدي الله بالصلاة والدعاء ليبعث السكينة والطمأنينة في قلوبهم مصداقاً لقوله تعالي : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ) – التوبة. وجعل المذنبين من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم  يجيئون من أماكنهم إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم  حياً كان أو ميتاً ، ليتوسل لهم لدي الله ليغفر لهم. مصداقاً لقوله تعالي : ( ولو أنهم إذ ظلموا انفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً ) – النساء . وجعل سيدنا عمر بن الخطاب يتوسل إلي الله تعالي  عام الرمادة بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، ليسقيهم ويخصب أرضهم قائلاً بعد أن أغيثوا ( هذا -  والله – الوسيلة إلي الله والمكان منه ) وجعل المسلم إذا ضل له شي ، أو أراد عوناً بأرض ليس بها أنيس، يقول : يا عباد الله أغيثوني ، يا عباد الله أغيثوني فإن له عباداً لا نراهم .

          ذلك هو منهج المسلمين في التوسل خلف عن سلف انه المنهج الذي يقوم علي رؤية الافعال كلها من الله ، الرؤية تقطع الفرد عن الأسباب والوسائط ويحجب المسبب لها إداراك السبب فيها .

              هذا وحيث أن لله عباداً أتقياء : ( إن أكرمكم عند الله اتقاكم ) وجهاء عندهم : ( وكان عند الله وجيهاً ) ، أحبوه فأحبهم ، حتى كان لهم سمعاً ، وبصراً ويداً – كان لابد أن يلجأ لهم ولأمثالهم المتوسل ،خاصة وقد وعد المولي بأنهم إذا سألوه أعطاهم  وإذا استعانوا به أعانهم ( من عادي لي ولياً فقد اذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من مما افترضته عليه ، ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتي أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ،  ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، وان سألني أعطيته، ولئن استعاذ بي لاعيذنه ) .

        كما وعد الله تبارك وتعالى بأنه لن يسوى بينهم وبين من اجترحوا السيئات ولابينهم وبين المفسدين في الأرض . وأقسم جل وعلا بأنه إن كان الإنسان عموماً في خسر ، فإن من اصطفاهم هو ممن آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ، قد جعلهم علي هدي منه ونور ومنحهم الإخلاص ، ونجاهم من إغواء الشيطان ، وسلطانه ، وأكد لهم ولغيرهم : بأنهم لو اقسموا علي الله لابر قسمهم، وبأنهم سيكون لهم منابر من نور ، يغبطهم عليها الأنبياء والشهداء، وبأنه سيظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله، وبأنهم يدفع بهم البلاء عن الأمة الإسلامية، وبأنهم اعقل الناس وخواص الله وجلساء الله يوم القيامة.

          إن المكانة والوجاهة ، والعصمة ، و المنزلة وإجابة الدعوة والتماس البركة هو الذي حدا ويحدوا بالناس إلى التذلل باعتاب الأنبياء والصالحين ، ممن لا يدانوهم مخبراً وإن فاقوا بعضهم مظهراً أولئك الذين جعلهم الله مفاتيح للخير ، مغاليق للشر .

          مما تقدم نرى أن الناس قد تفاوتوا ، فتفاوت بذلك مراتبهم في القرب البعد من الله . كان لابد من أن يستفيد المفضول من الفاضل طمعاً ، وأن يستفيد الفاضل من مثله أو من المفضول زيادة في ذلك الشرف  ، وذلك أنه كما أن الناجي يأخذ بيد أخيه وتبعاً لذلك يلحق الله بالآباء ذرياتهم ، دون أن يلتهم من أعمالهم شيئاً ، كذلك يرفع الذين آمنوا والذين آتوا العلم درجات فيزداد بذلك الذين آمنوا إيماناً  ويرتقون في مدارج كمال لا تحصى .

قال تعالي : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعي )
          قال الإمام الإلوسي في تفسيره لهذه الآية : قال أجله المحققين ، إنه ورد في الكتاب والسنة ماهو قطعي في حصول الانتفاع بعمل الآخر وهو ينافي ظاهر الآية قال عكرمة : كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسي ، أما هذه الأمة فللإنسان منها سعي غيره يدل عليه الحديث الذي رواه البخاري ، قال عبد الله بن عباس : إن سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها ، فقال : يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها : أينفعها شئ إن تصدقت به عنها ؟ قال : إني أشهدك أن حائطي ( البستان ) المخراف صدقة عليها .

          وقال الإمام القرطبي في تفسيره للآية : روي عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالي : ( والذين امنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم) – الطور (21) فيحل الولد الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه ويشفع الله تعالي الآباء في الأبناء والأبناء في الآباء ويدل علي ذلك قوله تعالي : ( آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا )- النساء (11) .

          واخرج مسلم وأبو داود والترمذي من حديث بريدة ، إن امرأة قالت : انه كان علي أمي صوم شهر فأصوم عنها ؟ قال : ( صومي عنها ) ومن غير الولد أيضا لحديث ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه ) ( متفق عليه ) –البخاري ومسلم من حديث عائشة ، وبقراءة يس من الولد وغيره ، لحديث        ( اقرؤوا علي موتاكم يس ) وبالدعاء من الولد لحديث ( أو ولد صالح يدعو له ) أو من غيره لحديث ( استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) ولحديث فضل الدعاء ، الدعاء للأخ بظهر الغيب ولقوله تعالي : ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ) – الحشر (100) .

          ولما ثبت الدعاء للميت عند الزيارة ، كحديث بريدة عن مسلم وابن ماجه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يعلمهم إذا خرجوا إلي المقابر يقول قائلهم : السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية ) وجميع ما يفعله الولد من إعمال البر لحديث ( ولد الوالد من سعيه ) .

          وأما استدلال المانعين ، بقوله صلى الله عليه وسلم  : ( إذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث أشياء (صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ) . استدلال غير مناسب لأنه صلى الله عليه وسلم  لم يقل انقطع انتفاعه، وإنما اخبر عن انتفاعه ، وإنما اخبر عن انقطاع عمله ، وأما عمل غيره فهو لعامله فان وهبة له وصل إليه ثواب عمل العامل لأثواب عمله هو . فالمنقطع شي والواصل إليه شي آخر . وقال : المقصود من قوله : ( انقطع عمله ) يعني التكليف المأمور به علي سبيل الخطاب والتكليف لانتقاله من الدنيا إلي عالم البرزح ولا يغيب عن ذهنك أيها العاقل ( الخلق عيال الله فأحبهم إليه انفعهم لعياله) الحديث . وإذا كان سبحانه وتعالي يحب من ينفع عياله بشربة ماء ومذقة لبن وكسرة خبز فكيف من ينفعهم في حال ضعفهم وفقرهم وانقطاع أعمالهم وحاجتهم إلي شي يهدي إليهم أحوج ما كانوا إليه . فأحب الخلق إلي الله من ينفع عياله في هذه الحال .

          عن ابن عباس قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم  بحائط من حيطان المدينة أو مكة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبريهما فقال النبي : ( يعذبان وما يعذبان في كبيرة ، ثم قال : كان إحدهما لا يستتر من بوله ، وكان الآخر يمشي بالنميمة ، ثم دعا بجريدة كسرها كسرتين فوضع علي كل قبر منها كسرة فقيل له: يا رسول الله لم فعلت هذا؟ ، فقال : ( لعله أن يخفف عنهما مالم ييبسا  ..  وإن من شي إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) – الإسراء -44- الحديث أخرجه الستة واللفظ للبخاري . قال النووي في شرح مسلم : استحب العلماء قراءة القرآن عند القبر لهذا الحديث لأنه إذا كان يرجى التحقيق بتسبيح الجريد فتلاوة القرآن أولي .

          وجري العرف في بعض البلاد بوضع الجريد علي قبور موتاهم ، استناداً بهذا الحديث . ولتسمية الله تعالي لها شجرة طيبة وتشبيهها بالمؤمن قال والأظهر أنه من سر الغيب الذي أطلعه الله عليه . وقد كان لعلماء الحديث نظرة خاصة لهذا الحديث الشريف فرأي خيار العلماء في سر الحديث ومغزاه ما يعود من النفع علي الميت من سر الثواب الواصل من الفياض تبارك وتعالي فوجدوا أن ثواب القرآن أعم واشمل، و من الأحاديث التي تحث علي قراءة القرآن علي الأموات ، ومن بيانه الشريف في الحديث الصحيح ، انه زار أهل البقيع يوماً فقرأ عليهم سورة الإخلاص ، ولما صح من صحيح مسلم والبخاري أنه صلى الله عليه وسلم  قرأ علي الميت فاتحة الكتاب فقيل لابن مسعود عن مسلم ( أتقرأ علي الميت الفاتحة ؟ فقال: (فعله من هو خير مني ومنكم ) وعن البخاري قيل لابن عباس ، أيضا كذلك علي مثل هذه الأصول أجمع خيار الأمة علي جواز قراءة القرآن علي القبور وقد قيل إن ثواب قراءة القرآن للقاريء وللميت ثواب الاستماع وكذلك تلحقه الرحمة لقوله تعالي : ( وإذا قريء القرآن فاسمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) – الأعراف (204) .

          وقال ابن القيم في كتاب الروح : هل تنتفع أرواح الموتي بشي من سعي الأحياء أم لا ؟ قال : أنها تنفع من سعي الأحياء بأمرين مجمع عليهما بين أهل السنة من الفقهاء وأهل الحديث والتفسير ، أحدهما : ما تسبب إليه الميت في حياته الثاني : دعاء المسلمين واستغفارهم له ، والصدقة والحج علي نزاع من الذي يصل ثوابه الإنفاق ، أم ثواب العمل ؟ .
          فعند الجمهور ، يصل ثواب العمل نفسه وثم يقول فإن المؤمنين ينتفع بعضهم بعمل بعض في الأعمال التي يشتركون فيها كالصلاة في جماعة فان كل واحد منهم تضاعف صلاته إلي سبعة وعشرين ضعفاً لمشاركة غيره له في الصلاة ، فعمل غيره كان سبباً لزيادة أجره .فأفهم.

          وقال : وقالت طائفة أخري : القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره ، وإنما نفي ملكه لغير سعيه ، وبين الأمرين من الفرق مالا يخفي فاخبر تعالي : انه لا يملك إلا سعيه ، وأما سعي غيره فهو ملك لساعية ، فان شاء أن يبذله لغيره وان شاء إن يبقية لنفسه ، وهو سبحانه لم يقل – لا ينتفع إلا بما سعي ، ثم قال : وكان كثير من العلماء ، يختار هذه الطريقة ويرجحها ، وكذلك قوله تعالي : ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) وقوله تعالي : ( ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ) علي أن هذه الآية أكثر تصريحاً في الدلالة : لان سياقها إنما ينفي عقوبة العبد بعمل غيره ، فان الله سبحانه وتعالي قال : ( فاليوم لا تظلم نفس شئياً ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ) فنفي أن يظلم ، لا أن يزاد عليه من سيئاته أو ينقص من حسناته أو يعاقب بعمل غيره ، ولم ينف أن ينتفعه بعمل غيره فان انتفاعه بما يهدي إليه ليس جزاء علي عمله ، وإنما هو صدقة تصدق الله بها عليه وتفضل بها عليه من غير سعي منه بل وهبه الله ذلك علي يد بعض عباده لا علي وجه الجزاء. 

          أضف إلى ما تقدم أن المولى في الآية ( 19 ) من سورة ( محمد ) ساوى تماماً بين سعى الإنسان لنفسه وسعيه لغيره ولم يفرق في ذلك بين السعي للحى من الرجال والنساء أو بين السعي للميت منهم ، فدل ذلك ، وبنص القرآن الكريم على جواز التوسل للغير والسعي من أجلهم ، بكسب غير كسبهم ، وعمل غير عملهم ، وجهد غير جهدهم يقول تعالى : ( وأستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) – ولعله مما يؤكد هذا الفهم ويدعمه أن المولى أشار في آيتين أخيرتين إلى وجود الصالحين أنبياء كانوا أو غيرهم قال : ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) وقال : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها إسم الله كثيراً ... ) .
          هذا وكما كان الرسول عليه السلام أمنة لأصحابه كذلك كان آله وأصحابه وتابعوه والمتأسون به أمنة لكل الناس ... فكانوا ... ولهذا السبب  يتوسلون ببعضهم ، وفى هذا الصدد يروى أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه توسل بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم  لإستمطار الغيث ، وكذلك فعل مع أويس، إذ طلب منه أن يدعو له بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . 

          هذا وحتى يشعر الرسول صلى الله عليه وسلم  أصحابه وتابعيه برضائه عن الدعاء للغير كان يؤمن علي دعاء ذلك العابد ، بل لقد أمر الداعي بأن يعم المسلمين بدعائه ، مما يؤكد أن الدعاء للغير أمر جائز إن لم يكن سنة قوليه – واقرار به – وورد أن الدعاء أو الغوث كما ينتظر من البشر للبشر . ينظر من الملائكة للبشر وغيرهم ، أما في هذه الحياة كما في قوله تعالي : ( والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض إلا أن الله هو الغفور الرحيم ) ، أو في الحياة الآخري كما في قوله تعالي : ( وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوم من العذاب ) .

          فالواسطة لابد منها وهي ليس كل من اتخذ بينه وبين الله واسطة يعتبر مشركاً والا لكان البشر كلهم مشركين بالله لأن أمورهم جميعاً تنبني علي الواسطة فالنبي صلى الله عليه وسلم  تلقي القرآن بواسطة جبريل فجبريل واسطة للنبي صلى الله عليه وسلم  وهو صلى الله عليه وسلم  الواسطة العظمي للصحابة رضي الله عنهم فقد كانوا يفزعون إليه في الشدائد فيشكون إليه حالهم ويتوسلون به إلي الله ويطلبون منه الدعاء فما كان يقول لهم أشركتم وكفرتم فإنه لا يجوز الشكوى إلي ولا الطلب مني بل عليكم أن تذهبوا وتدعوا وتسألوا بأنفسكم فإن الله أقرب إليكم مني لا ، بل يقف ويسأل مع أنهم يعلمون كل العلم إن المعطي حقيقة هو الله وان المانع الباسط الرازق هو الله ، وانه صلى الله عليه وسلم  يعطي بأذن الله وفضله وهو الذي يقول ( إنما أنا قاسم والله معط ) وبذلك يظهر أنه يجوز وصف أي بشر عادي بأنه فرج الكربه وقضي الحاجة أي كان واسطة فيها فكيف بالسيد الكريم والنبي العظيم أشرف الكونين وسيد الثقلين وأفضل خلق الله علي الإطلاق ؟ الم يقل النبي صلى الله عليه وسلم  كما جاء في الصحيح :-

1/ ( من فرج كربه من كرب الدنيا ) فالمؤمن مفرج الكربات.
2/ ألم يقل صلى الله عليه وسلم  : ( من قضي لأخيه حاجة كنت واقفاً عند ميزانه فإن رجع والا شفعت له ) فالمؤمن قاض الحاجات .
3/ ألم يقل صلى الله عليه وسلم  : ( من ستر مسلماً ) ..... الحديث
4/ ألم يقل صلى الله عليه وسلم  : ( إن الله عز وجل خلقاً يفزع إليهم في الحوائج) .
5/ ألم يقل صلى الله عليه وسلم  في الصحيح : ( والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه ) .
6/ ألم يقل صلى الله عليه وسلم  في الحديث : ( من أغاث ملهوفاً كتب الله له ثلاثا وتسعين حسنة ) .
           فالمؤمن من هنا فرج وأعان وأغاث وقضي وستر وفزع إليه مع أن المفرج والقاضي والستار والمعين حقيقة هو الله عز وجل لكنه لما كان واسطة في ذلك صح نسبة الفعل إليه(مجازا) .
           وقد جاء في الأحاديث النبوية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  أحاديث كثيرة تفيد أن الله سبحانه وتعالي يرفع العذاب عن أهل الأرض بالمستغفرين وعمار المساجد وأنه سبحانه وتعالي يرزق بهم أهل الأرض وينصرهم ويصرف عنهم البلاء والغرق .
           روي الطبراني في الكبير والبيهقي في السنن عن مانع الديلمي رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : ( لولا عباد الله ركع وصبية رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا ثم رض رضاً ) .

           روي البخاري عن سعد بن أبي وقاص  رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : ( هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ) .

           وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  إنه ليصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده وأهل دويرته ودويرات حوله ولا يزالون في حفظ الله عز وجل مادام فيهم ) .

           وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : (إن الله ليرفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل من جيرانه بلاء ) ثم قرأ ابن عمر : ( ولولا دفع الله الناس لبعضهم ببعض لفسدت الأرض ) – رواه الطبراني 

           وعن ثوبان رفع الحديث قال : ( لا يزال فيكم سبعة بهم تنصرون وبهم تمطرون وبهم ترزقون حتى يأتي أمر الله ) .

           وعن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  :   ( الإبدال في أمتي ثلاثون ، بهم ترزقون وبهم تمطرون وبهم تنصرون – قال قتادة: ( إني لأرجو أن يكون الحسن منهم ) رواه الطبراني .

           ذكر هذه الأحاديث الأربعة الحافظ بن كثير في التفسـير عند قوله تعالي : ( ولولا دفع الله الناس ) – البقرة .  
          أضف إلى ذلك أن خاصة المسلمين وعامتهم كانوا على ضوء ذات المفهوم السابق حين يقرأون الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تنسب فعلاً ما لعبد يعلمون أن تلك النسبة مجازية لا حقيقية : فالملك مثلاً حين يقول للسيدة مريم: ( لأهب لك غلاماً زكية ) يعلم هو وتعلم السيدة مريم ويعلم كل مسلم إن الواهب الحقيقي هو الله لا الملك . وسيدنا عيسى عليه السلام حين يقول : ( إني أخلق لكم  من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص ، وأحى الموتى بإذن الله ) حين يقول يعلم هو ، ويعلم كل من سمعه ، أو أخبر به ، بأن الخالق الحقيقي هو الله . وأيضاً حين يتلو المسلم قوله تعالى : ( حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لايفرطون ) يعلم بأن الذي ( يتوفى الأنفس حين موتها ) حقيقة هو الله ، لا الملائكة .
          تلك هي عقيدة المسلم وذلك هو إيمانهم بالواحد الأحد الفرد الصمد ، المتصف بكل كمال ، المنزه عن كل نقص المستغنى عن كل ماسواه ، المفتقر إليه كل ما عاداه .. لقد ترفع جميع المسلمين عن كل شرك وسما فكر خاصتهم وعامتهم عن حمى الكفر ، أو إعتقاد تأثير الأسباب في المسببات وكانوا إذا إستغاثوا أو توسلوا  ، أو تبركوا بأحد ما أو بأثره حياً كان أو ميتاً يدركون تسامي المولي ( عن ند يشاركه في خلق شيء ) أو فعله ، حيث انه هو وحده الفعال لما يريد ، وان الخلق مهما سمت بالتقوى مكانة بعضهم ، علي أن يحدثوا في هذا الكون شيئا لم يرده الله ما استطاعوا إليه سبيلا .

          اللهم سر بنا في سرب في سرب النجابة ، ووفقنا للتوبة والإنابة ، وافتح لا دعيتنا أبواب الإجابة ، يامن إذا دعاه المضطر أجابه ، يامن يقول للشي كن فيكون ، اللهم إنا نسالك بالخليل في منزلته والحبيب في مرتبته وبكل مخلص في طاعته ، أن تغفر لكل منا زلته يا رحيم يا كريم . اللهم يا لطيف يا رازق ، يا قوى يا خالق نسألك تولها إليك وإستغفاراً في محبتك ، ولطفاً شاملاً جلياً وخفياً ، ورزق طيباً هنيئاً مرياً ، وقوة في الإيمان واليقين ، وصلابة في الحق والدين ، وعزا بك يدوم ويتخلد ، وشرفاً يبقى ويتأبد ، لا يخالط تكبراً ولاعتواً  . ولا إرادة فساد في الأرض ولا علو ، إنك سميع قريب مجيب برحمتك يا أرحم الراحمين ، وأغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين  وصل وسلم بجلالك وجمالك على جميع النبيين والمرسلين وعلى آلهم وصحبهم أجمعين .