بحث هذه المدونة الإلكترونية

الحبيب المصطفى وأسبقية نوره صلى الله عليه وسلم

       بسم الله الرحمن الرحيم
 اللهم صلى وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه


الحقيقة المحمدية
اعلم يا ذا العقل السليم، والمتصف بأوصاف الكمال والتتميم - وفقني الله وإياك بالهداية إلى الصراط المستقيم- أنه لما تعلقت إرادة الحق تعالى بإيجاد خلقه، وتقدير رزقه، أبرز الحقيقة المحمدية من الأنوار الصمدية، في الحضرة الأحدية، ثم سلخ منها العوالم كلها، علوها وسفلها، على صورة حكمه، كما سبق في سابق إرادته وعلمه، ثم أعلمه تعالى بنبوته، وبشره برسالته، هذا وآدم لم يكن إلا - كما قال- بين الروح والجسد، ثم انبجست منه - صلى الله عليه وآله وسلم-عيون الأرواح، فظهر بالملأ الأعلى، وهو بالمنظر الأجلى، فكان لهم المورد الأحلى، فهو -صلى الله عليه وآله وسلم- الجنس العالي على جميع الأجناس، والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس.
ولما انتهى الزمان باسم الباطن في حقه - صلى الله عليه وآله وسلم- إلى وجود جسمه، وارتباط الروح به، انتقل حكم الزمان إلى الاسم الظاهر، فظهر محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- بكليته جسماً وروحاً، فهو - صلى الله عليه وآله وسلم- وإن تأخرت طينته، فقد عرفت قيمته، فهو خزانة السر، وموضع نفوذ الأمر، فلا ينفذ أمر إلا منه، ولا ينقل خير إلا عنه، ولله در القائل:
ألا بأبي كان ملكا وسيدا * وآدم بين الماء والطين واقف
فذاك الرسول الأبطحي محمد * له في العلا مجد تليد وطارف
أتى بزمان السعد في آخر المدى * وكان له في كل عصر مواقف
أتى لانكسار الدهر يجبر صدعه * فأثنت عليه ألسن وعوارف
إذا رام أمراً لا يكون خلافه * وليس لذاك الأمر في الكون صارف
       المعنى العام لمصطلح ( الحقيقة المحمدية )، هذه العبارة تتألف من مفردتين : ( الحقيقة ) و ( المحمدية ) ، فأما المفردة الأولى فإن معناها العام : هو كنه الشيء وذاته أو كما يقال ( ماهيته( ، وأما المفردة الأخرى فتشير إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون معنى العبارة كاملة هو : الكنه أو الماهية الذاتية للرسول محمد صلى الله عليه وسلم
        إن هذا المعنى لهذه العبارة يبعدنا - ولو شكلياً – عن الجانب الصوري أو المظهري للرسول محمد صلى الله عليه وسلم ويجعلنا نركز على الجانب المعنوي له أو البعد الآخر .
     ولتوضيح ذلك نأخذ على سبيل المثال ( الإنسان ) لنرى الفرق بين صورته وماهيته، فلو أننا نظرنا إليه من حيث بعده الصوري أو المظهري لوجدنا أنه يتكون من لحم ودم وغيرها من الأمور البايلوجية الحية بما تنطوي عليه من عناصر كيمياوية متداخلة ، التي يمكن دراستها ومحاولة اكتشاف خصائصها بواسطة التجارب والاختبارات العلمية أو المعملية ، ولكن حين ننظر إلى الإنسان من حيث البعد الجوهري له الذي خلقه عليه الحق تعالى نجد أنه يتكون من ( طين ) نفخ فيه )  الروح ) بحسب ما يصفه لنا كلام الله تعالى . وعلى هذا يكون الأصل الماهوي للإنسان من حيث البعد القرآني هو ( الطين والروح ( .
هذا الأصل الماهوي هو الذي يعبر عنه بحقيقة الشيء أوكنهه ، فهو يمثل هنا ما يعرف اصطلاحاً بـ ( الحقيقة الإنسانية ( .
        وعلى هذا فما يراد بالحقيقة المحمدية هو : الجانب الماهوي منها لا الصوري المظهري ، فما هي الحقيقة المحمدية  أو ماهوية سيدنا محمد  ؟ وهل تختلف عن الماهية الإنسانية الاعتيادية ؟
     لو عدنا إلى القرآن الكريم الذي أخبرنا أن الماهية الإنسانية تعود إلى ) الطين ) لوجدناه يخبرنا أن ماهية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم  لا تعود إلى هذا الأصل، بل تعود إلى محض النور الإلهي المطلق ، يقول تعالى: ) قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نورٌ وَكِتابٌ مُبينٌ . يَهْدي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ )[1]  .
     فلنتأمل قوله تعالى: ( مِنَ اللَّهِ نورٌ(  والذي يعني أنه نور من نور الله تعالى ، تمثل وتجسد بهيئة الرسول محمد ، كما تمثل جبرائيل عليه السلام بهيئة البشر السوي لمريم (عليها السلام) . فلا فرق بين تمثل الطين وتجسده بهيئة الإنسان السوي وبين تمثل النور الإلهي بهيئة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم .
فهذه هي حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم: أنه نور محض تكثف وتجسد بإذن الله تعالى حتى ظهر بالصورة النبوية في وقت معلوم رحمة للعالمين ، وتلطف عن رؤية الأنظار حين انتهى وقت ذلك الظهور حتى عاد إلى حالته المطلقة
        أجمع العلماء والمتكلمون على أن النور هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره وأجمعوا على أنه قسمين:
      نور حسي ظاهري وبه يدرك البصر الأشياء من المبصرات ، ونور معنوي باطني وبه تحيى القلوب ، وتهتدي البصيرة ، وتستضيء النفس ، ويسير به الإنسان في ظلمات الجهل والمادة ، ويسلك به الصراط المستقيم ، قال تعالى:        ( أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّه [2](.
     وقد أطلقت كلمة النور في القرآن الكريم على معان عدة منها : لتدل على القرآن الكريم ، كما في قوله تعالى:( وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَه)[3]     )، وقوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا  )[4]
     كما وأطلقت لتدل على ما انزل على سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من الأحكام والإرشادات والتوجيهات : قال تعالى : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)  .
وأطلقت على الفطرة أيضاً ، قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ
مِنْ نُورٍ. [5](
ومن المعاني الأخرى: أنه صفة الله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) [6](
       وأُطلقت على سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كما في قوله تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [7]() ، وقوله تعالى: (وَسِرَاجاً مُنِيراً [8](.
     ولاختلاف المصادر اختلف العلماء والمفسرون في المراد به ، فقيل : أنه النعم الثلاث التي خُص بها العباد : وهي الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، والقرآن الكريم ، والعقل ، وقل غير ذلك .
      والحق فإن المراد به هو جميع ما تقدم ، فهو صفة الله تعالى والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والقرآن العظيم والإسلام والعقل والفطرة ... فهو واحد في أصله متكثر بمظاهره ، كتغيير ضوء الشمس عندما يظهر بألوان متعددة حين يمر بالزجاج المختلف الألوان .
       إن النور واحد في جوهره، متعدد في أعراضه وأغراضه ، ومن أغراضه ما ذهب إليه الطبري وابن كثير ، من أن النور يهدي النفس إلى الاتجاه نحو الأيمان ، قال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ) [9]، ومنها : ما ذهب إليه المفسر الكبير فخر الدين الرازي من أنه يكشف فيميز الخبيث من الطيب ، أو بالأصح يساعد على التمييز بين المتناقضات .
ومنها : أن فيه قوة تحرك المخلوق على زيادة أعمال الخير ، فإن الزيادة في عمل الطاعات تعني الزيادة في استمداد النور تدعيماً لتقوى النفس ، ويأتي هذا من صدق المخلوق مع نفسه وربه ، فإن كان صادقاً شمله الله تعالى برعايته وزاده من نوره الذي يشرق على قلب العبد ، فيزيده ابتهاجاً وسروراً لما يراه من الحقائق الإلهية ، فهو الهادي والكاشف لهذه الحقائق .
       فبالنور تكتمل الأشياء معرفياً لاستحالة اكتمال الشيء من ذاته ، ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى في المخلوقات نور الفطرة ، وبه تسعى للحصول على المزيد منه لكي ترقى له تعالى .
      أن النور في أصله صفة أزلية قائمة بالذات الاحدية ، وبواسطته أظهر الله سبحانه وتعالى السماوات والأرض من العدم إلى الوجود ، لأن النور إذا تجلى على شيء أو في شيء أظهره ، قال تعالى : (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض (، وبواسطة هذا النور اكتسبت جميع الممكنات مظاهرها الوجودية والمعرفية ، فكان النور للوجود كالروح للجسد ، فصفة النور : هي مبدأ الخلق والإيجاد والظهور والمعرفة لجميع الممكنات .
     قال صلى الله عليه وسلم  )أول ماخلق الله تعالى نوري)[10] ، من ذلك النور تفرعت الأنوار وتطورت الأطوار .
      يقول الشيخ العلاوي: (( ثم إن النور هو عبارة عما يستضاء به ، إما باعتبار المحسوسات أو باعتبار المعقولات ، فالأول مجلى الظواهر والثاني مجلى السرائر، والأول مطمح الأبصار والثاني مطمح البصائر ، والمتبادر فهمه ما استنارت به الظواهر مع أنه فرع بالنسبة لما انطوى في غيب السرائر ، وكيفما تشعبت الأصول وتفرعت الفروع إلا ومرجعها للنور المفرد (الله نور السماوات والأرض)[11]  ." وهذا هو النور المجرد ، وأما النور الإضافي المعبّر عنه بمحمد فقد مثّله بقوله  ) مثل نوره كمشكاة ( فنوره هو محمد ، فلهذا وقع التشبيه على المضاف لا على المضاف إليه الذي هو النور الأول، فسلمت من ذلك مرتبة التنريه من أن يمسسها تشبيه ، وإن كان التنزيه عين التشبيه من حيث )  فأينما تُولّوا فثَمّ وجهُ الله)[12] فلا بد من أخذ المقام مقتضاه، ولو وقع التشبيه على النور المجرد لاستغنى بذكر الضمير عن ذكر المضاف والمضاف إليه، ولقال أيضاً كمصباح لوجود المناسبة بين المصباح والنور ، وأيضاً للزم عن ذلك انحصار البطون في الظهور، وتكون المشكاة والزجاجة غير النور، والحالة أنهما نورعلى نور، فاتحد بهذا الاعتبار المشبه والمشبه به في وجود النور ، وإلى الله تصير الأمور ، فاتضح لنا من أنه تعالى نور مجرد عن المادة والإضافة والنسب أي ليس كمثله شيء ، ومثل نوره المتنزل به المسمى بمحمد المضاف لذلك النورالمجرد كمشكاة فيها مصباح من سر الله للزوم قيوميته بكل جوهر وعرَض) الله نور السماوات والأرض)  فالمشكاة لها أوفر نصيب من نور الله ) ومن يطع الرسول فقد أطاع الله)[13] والملخص من ذلك : أن ما تكشف من النور المحمدي أشار له بالمشكاة، وما تلطف منه أشار له بالزجاجة، وما وراء ذلك أشار له بالمصباح ، فالمصباح هو نورٌ للزجاجة والمشكاة و) الله  نور السماوات والأرض ( ورد في الخبر ( أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمات ثم رش عليهم من نوره)[14] ، أي قدّر خلقهم في سابق علمه ثم أفرغ عليهم من وجوده.
   ومحصّل الأمر أن جميع ما تدفق من الفيض الأقدس المتنوع بالمعنى والحس أساسه النور المحمدي ، ومنه تشعبت سائر الأنوار التي من بعضها السماوات والأرض ، ولا نستبعد ما نراه من صلابة الحس أن يكون ذلك بعضاً من شعاع حضرة القدس ، فالتغير واقع من ضعف الإبصار ، وبانتفاء النقص عن المؤثر ينتفي عن الآثار ، فالتفتْ للنشأة الأصلية التي هي نور على نور و) ارجع البصر هل ترى من فطور)[15] ، كلاّ لا تجد إلا بطوناً وظهورا، ذلك الظهور هو المعبّر عنه بالنور ، فمن اهتدى إليه فقد اهتدى " يهدي الله لنوره من يشاء"، سئل صلى الله عليه وسلم هل ترى ربك ؟ فقال : " نوراً أراه "[16].
     وذلك النور هو المانع من ادراك الكنهية ، فحجابه تعالى هو ظهوره ، فمن شدته اختفى، جاء في الخبر (حجابه النور)[17] ، فبسبب ظهور النور الإضافي احتجب المجرد، ولا يُرى النور إلا في النور، ولا يُدرَك البطون إلا في الظهور ، قال صلى الله عليه وسلم ( من رآني فقد رأى الحق)[18] ، أي من عرفني فقد عرف الحق، ولا يعني برؤيته الذات المسماة بمحمد بن عبد الله ، بل يومئ لحقيقته المتدفقة من بحار عظمة الذات لأنها محل ظهوره تعالى، قال في بعض كلامه ( لا يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن  )[19] ، وذلك القلب المتجلي بسائر النفوس ) ما خلْقُكم ولا بعثُكم إلاّ كنفسٍ واحدة   [20]فمن عرف هذه النفس وشهد المعنى في الحس لا يعدم حظه من شعاع حضرة القدس ، ولم يوجد ذلك إلا في خصوص أفراد بما جعله الله فيهم من الاستعداد زيادة عن صفة الإدراك المشترِك فيهما عمومُ العباد ومنهم الأنبياء وخاصة الخاصة من الأولياء ، ولهذا امتدح مقام النبوة بأنه عليه الصلاة والسلام المتحقق في عالمي البطون والظهور بمعاني الأسماء والصفات، فبهذا الاعتبار يكون هو المتحقق الواحد على الوجه الأكمل، وأما ما عداه فبالإضافة والإرث( العلماء ورثة الأنبياء)[21]))[22].
صلاتك رب والسلام على النبي
            
صلاة لها ريح من المسك أطيب
بأحمد كل الأرض نارت وأشرقت
                 
ففي نوره كلّ يجيء ويذهب
بداه جلال الحق للخلق رحمة
                     
فكل الورى في برّه يتقلب
بدا مجده من قبل نشأة آدما
                    
وأسماؤه من قبل في العرش تُكتب
بمبعثه كل النبيين بشرت
                    
ولا مرسل إلا به كان يخطب
بتوراة موسى نعته وصفاته
                 
وإنجيل عيسى في المدائح يُطْنِبُ
بشير نذير مشفق متعطف
                  
رؤوف رحيم محسن لا يُثَرِّبُ
نبينا أعلى نبي وأرفع

 إن معرفة حقيقة سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عجز عنها سائر البرية. وقد قال صلى الله عليه وسلم :'' يا أبا بكر والذى بعثنى بالحق بشيراً ونذيراً لم يعلم حقيقتى غير ربى ".
         روى عن أبى ذرالغفارى رضى الله عنه قال: (قلت يارسول الله كيف علمت أنك نبىٌّ حتى استيقنت؟ قال : يا أبا ذر أتانى ملكان وأنا ببعض بطحاء مكة فوقع أحدهما إلى الأرض وكان الآخر بين السماء والأرض ، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ فقال: نعم . قال : فزنه برجل. فرجحته. ثم قال: زنه بعشرة . فرجحتهم . ثم قال : زنه بمائة فرجحتهم. قال: زنه بالف .فرجحتهم. قال صلى الله عليه وسلم : كأنى أنظر إليهم يُنثَرونَ علىَّ من خفة الميزان. فقال أحدهما لصاحبه: لو وزنته بأمته كلها لرجحها.)[23] هذه هي المثلية في أوضح معانيها.
      فهو صلى الله عليه وسلم طلسمُ السرالمكنون لا يطَّلع عليه إلا الله سبحانه وتعالى . قال تعالى: (وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا)[24] ، (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّم كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) [25]
  وما أدرك المسلمون إلا ظاهر صورته المحمدية. وهى التى عبَّر عنها سيدى أويس القرنى بالظل . أما حقيقته وسرُّه صلى الله عليه وآله وسلم فهو أمر انفرد به الحق عز وجل ، أما كونه صلى الله عليه وسلم أول الخلق على الإطلاق فقد أشارت الآيات، والأحاديث إلى هذه الحقيقه، ويحتج المعترضون على كون سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أول الخلق فى عالم النور والأرواح ، ويستدلون فى اعتراضهم بالآيات القرآنية والأحاديث والشريفة التى جاءت فى وصف حضرته بالبشرية ولوازمها، قال تعالى :(قل إنما أنا بشر مثلكم)[26] ، ويقولون إنه بشر مثلنا فكيف يكون نوراً، وغاب عنهم أن البشرية أتم مراتب الكمال الإنسانى ، فهى التى قبلت النور ونفخ الروح فيها، وقالوا ما الفخر الا بالجسوم فإنها مولِّدة الأرواح ناهيك من فخر من وقفوا مع بشريته صلى الله عليه وآله وسلم وغفلوا تماما عن عالم الأرواح فى قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم). فلا بد أن يكون لعالم الأرواح أصل وحقيقة، كما لابد أن يكون لعالم الأجساد أصل إذا قلنا أصل الأجساد سيدنا آدم فليس فى ذلك خلاف فلا بد أن يكون عالم الأرواح أصلا وهو عالم النور، والذين يقفون مع بشرية النبى فهم بهذا المفهوم يقولون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثلنا ونحن مثله وهذا يؤدى إلى الخلط والعياذ بالله ، وعليه يبرز أمامنا سؤال هل يوجد فى الصنف البشرى اثنين خلقهم الله متحدين فى أى شئ ؟ فى الشكل ؟ فى الصوت فى الإدراك فى الإحساس فى الذوق فى التذوق ؟ فى الطبع وهذا لم يتوافر فكيف حكمت بالمثلية لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ألم يقرأوا قول الحق سبحانه وتعالى (انظر كيف فضَّلنا بعضهم على بعض) فلابد من التفضيل ولابدَّ من التمييز .
     وإذا كان لابد من القياس فيجب أن نقيس بما قاس به الحق سبحانه وتعالى ، فاذا قلنا أعلى درجة فى التفضيل بين الأجناس نقول الصنف البشرى ثم من الجنس البشري نقول الأولياء والصالحون وأعلى درجة فى التفضيل بين الأولياء نقول الأنبياء والمرسلون وأعلى درجة فى التفضيل بين الأنبياء والمرسلين نقول أولو العزم من الرسل ، وأعلى درجة في التفضيل بين أولي العزم من الرسل نقول هو النبى صلى الله عليه وسلم فهذا هو القياس الصحيح هذا هو الأمر الواضح الذى لا يزيغ عنه إلا كل هالك .
       فقد أجمع العلماء على أن النبى صلى الله عليه وسلم له الأفضلية والمزية على كل صورة ظهرت فى عالم الأحياء وفى عالم الأرواح وعالم النور ويقول بعض المعترضين: كيف قلتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول الخلق رغم ان الاحاديث الصحيحة فى البخارى ومسلم وفى الجامع الكبير ومسند الامام احمد ورد بانه صلى الله عليه وآله وسلم لما سئل عن أول ما خلق الله . قال: الماء وسئل ومرةً اخرى عن اول ما خلق الله فقال : القلم الاعلى وسئل مرة اخرى فقال : أول ما خلق الله العقل الاول .
     نقول نعم كل ماذكر صحيح وورد ايضاً كما روى الامام احمد عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم (كنت نوراً بين يدى ربى قبل خلق آدم باربعة عشر ألف عام) وكذلك رواه الامام الترمذى وغيره عن أبى هريرة رضى الله عنه قال . قالوا يا رسول الله متى وجبت لك النبوة ؟ قال : (وآدم بين الروح والجسد) . وكذلك ما جاء فى مسند الإمام احمد عن ابى هريرة رضى الله عنه . قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم : إنَّ رب العزة خاطبه فقال): لولاك لولاك ما خلقت الافلاك) . وروى الامام البيهقى وابن عساكر عن سيدنا عثمان بن ابى العاص رضى الله عنه قال:( حدثنى امي أنها شهدت ولادة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قالت: فما شئ انظر اليه فى البيت إلا نوراً اضاء البيت والدار حتى جعلنا لانرى الا نوراً) .

     والاحاديث الوارده فى أنه نور وانه أول الخلق كثيره ؛ قال الامام فخر الدين الشيخ محمد عثمان عبده البرهانى رضى الله عنه :'' ان كل أولويه ذكرت للقلم او للعقل او للماء إنما هى بالنسبة للعالم التى هى اساس له".
    ولتوضيح هذا الامر نقول مثلاً: اصل الوجود أو أول الايجاد لعالم الدنيا هو سيدنا آدم . فأوَّلية سيدنا ادم مقيدة بعالم الدنيا من حيث الصورة البشرية فهو أول ، ولكن عالم العناصرالتي هي التراب والماء والهواء والنار. له أولية قبل ظهور سيدنا آدم  . لان التراب اصل الإيجاد قبل ظهور الجسد (انى خالق بشراً من طين) فالطين له أولية ايضاً . ولكن الدنيا الارضين والسماء اين حقيقتها ومن اين شيء كانت. اسمع الى قوله تعالى : ( او لم ير الذين كفروا أن السماء والارض كانتا رثقاً ففتقناهما ) فالسماء والارض كانت شيئاً واحداً فلها أولية بهذا الاعتبار وباختصار شديد فالقلم الأعلى اول عالم التدوين قد حصر ما يجرى فى الوجود وكذلك العقل الاول هو أول بالنسبة لعالم المعانى والادراكات وكذلك الماء أول بالنسبه للحياه التى هى قوام كل صوره وهو هنا بمعنى الروح.
       فعندما يقول النبىُّ صلى الله عليه وآله وسلم . أول ما خلق الله القلم ، أول ما خلق الله العقل ، أول ما خلق الله العرش، فكل شئ أول لعالمه ، ولكن أولوية كل هذه العوالم مطلقة وأصلها هو النبى صلى الله وعلى آله وسلم فهى الاولية جامعة لكل أولية مذكورة فى الاحاديث التى سبق ذكرها .
     يقول الشيخ عبد الكريم الجيلي قدس الله سره : (إنه صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل العالم وأشرف الخلق بالإجماع ، لكونه مخلوقاً من نور الذات الإلهية ، وما سواه فإنما هو مخلوقٌ من أنوار الأسماء والصفات ، فلأجل ذلك كان صلى الله تعالى عليه وسلم  أولُ مخلوقٍ خلقه الله تعالى . فكما أن الذات مقدمةٌ على الصفات، فمظهرها أيضاً مقدم على مظهر الصفات ، وقد أخبر عن نفسه في حديث جابر فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : (أول ما خلق الله روح نبيك يا جابر ثم خلق العرش منه ثم خلق العالم بعد ذلك منه)[27]، وقد رتب خلق العالم في ذلك الحديث من أعلاه وأسفله ، والسر في ذلك : أن الذات سابقة الوجود في الحُكم على الصفات ، وإلا فلا مُفَارقة بين الصفات والذات ، لأن السبق إنما هو في الحُكم لا في الزمان ، لأن الصفات لابُد لها من ذاتٍ أقدم في الوجود ، فكان رسول  أقدم في الوجود ، لأنه ذاتٌ محض والعالم جميعه صفات تلك الذات ، وهذا معنى خلق الله العالم منه . وروح محمد صلى الله تعالى عليه وسلم  هو المعبر عنها : بالقلم الأعلى ، وبالعقل الأول لبعض وجوهه ، ومن هذا المعنى ورد قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : (أول ما خلق الله القلم ( ، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم  : (أول ما خـــلق الله روح نبيــك يــــا جـــــابر (، ولو لم تكن الثلاثة أشياء عبارة عن وجود واحد هو روح سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، لكان التناقض لازماً في هذه الثلاثة أخبار وليس الأمر كذلك ، بل هي جميعها عبارة عنه ، كما يعبر عن قلم الكتابة باليراعة تارة ، وتارة بالآلة ، وتارة بالقلم كل ذلك لوجوهه من غير زيادة ونقص .
      فرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : هو الذاتي الوجود ، وما سواه فصفاتي الوجود : وذلك أن الله تعالى لما أراد أن يتجلى في العالم اقتضى كمال الذات أن يتجلى بكماله الذاتي بأكمل موجوداته في العالم ، فخلق محمداً صلى الله تعالى عليه وسلم من نور ذاته لتجلي ذاته ، لأن العالم جميعه لا يسع تجليه الذاتي ، لأنهم مخلوقون من أنوار الصفات ، فهو في العالم في منـزلة القلب الذي وسع الحق ، وإلى هذا أشار صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله : (إن يس قلب القرآن [28](، ويس اسمه صلى الله تعالى عليه وسلم : أراد بذلك أن النبي بين القلوب والأرواح وسائر العوالم الوجودية بمنزلة القلب من الهيكل وبقية الموجودات كالسماء والأرض لم تسع الحق . قال تعالى على لسان نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم : (ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن)[29] .
    وأخرج البخاري في تاريخه الصغير من طريق علي بن زيد قال: كان أبو طالب يقول:
وشق له من اسمه ليجلـــه       ففى العرش محمود وهذا محمد

     
وقد سماه الله تعالى بهذا الاسم قبل الخلق بألفي ألف عام، كما ورد في حديث أنس بن مالك، من طريق أبي نعيم في مناجاة موسى، وروى بن عساكر عن كعب الأحبار قال: إن الله أنزل على آدم عصياً بعدد الأنبياء والمرسلين. ثم أقبل على إبنه شيث فقال: أي بني أنت خليفتي من بعدي، فخذها بعمارة التقوى،والعروة الوثقى، وكلما ذكرت الله فاذكر إلى جنبه اسم محمد، فإني رأيت اسمه مكتوباً على ساق العرش، وأنا بين الروح والطين، ثم إني طفت السموات فلم أر في السموات موضعاً إلا رأيت إسم محمد مكتوباً عليه، وإن ربي أسكنني الجنة فلم أرَ في الجنة قصراً ولا غرفة إلا إسم محمد مكتوباً عليه،ولقد رأيت اسم محمد مكتوباً على نحور الحور العين، وعلى ورق قصب آجام الجنة، وعلى ورق شجرة طوبى،وعلى ورق سدرة المنتهى، وعلى أطراف الحجب، وبين أعين الملاكة، فأكثر ذكره فإن الملائكة تذكره في كل ساعاتها.
بدا مجده من قبل نشـــأة آدم    +  فأسماؤه في العرش من قبل تكتب
     ثم إن في اسمه محمد خصائص: منها: كونه على أربعة أحرف ليوافق اسم الله تعالى اسم محمد، فإن عدد حروف الجلالة على أربعة أحرف كمحمد، ومنها: أنه قيل: إن مما أكرم الله به الآدمي أن كانت صورته على شكل كتب هذا اللفظ، فالميم الأول رأسه، والحاء جناحاه،والميم سرته والدال رجلاه
ومنها: أنه تعالى اشتقه من اسمه المحمود كما قال حسان بن ثابت:

أغر عليه للنبوة خاتــــــم         من الله نور يلوح ويشهـــد

وضم الإله اسم النبي إلى اسمـه         إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
يقول العلامة الغزالي في كتاب "النفخ والتسوية"، عن قوله: (كنت أول الأنبياء خلقاً، وآخرهم بعثا)،: بأن المراد بـ"الخلق" هنا" التقدير دون الإيجاد، فإنه قبل أن ولدته أمه لم يكن موجودا مخلوقا، ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود".
"قال: وهو قولهم: "أول الفكرة آخر العمل، وآخر العمل أول الفكرة" وبيانه: أن المهندس المقدر للدار، أول ما يمثل في نفسه صورة الدار، فتحصل في تقديره دار كاملة، وآخر ما يوجد من أعماله هي الدار الكاملة، فالدار الكاملة هي أول الأشياء في حقه تقديراً، وآخرها وجوداً، لأن ما قبلها من ضرب اللبنات وبناء الحيطان، وتركيب الجذوع، وسيلة إلى غاية وكمال وهي الدار، فالغاية هي الدار ولأجلها تقوم الآلات والأعمال".
"ثم قال: وأما قوله عليه السلام: (كنت نبيا) فإشارة إلى ما ذكرناه، وأنه كان نبياً في التقدير قبل تمام خلقة آدم عليه السلام، لأنه لم ينشأ خلقُ آدم إلا ليُنتزع من ذريته محمد - صلى الله عليه وآله وسلم- ويستصفى تدريجياً إلى أن يبلغ كمال الصفا".
"قال: ولا تفهم هذه الحقيقة إلا بأن يعلم أن للدار وجودين: وجودا في ذهن المهندس ودماغه، والوجود الثاني أنه ينظر إلى صورة الدار خارج الذهن في الأعيان، والوجود الذهني سبب الوجود الخارج للعين، فهو سابق لا محالة، وكذلك فاعلم أن الله تعالى يقدر ثم يوجد على وفق التقدير ثانياً،" انتهى.
وهو متعقب بقول الشيخ تقي الدين السبكي، "أنه قد جاء أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد، فقد تكون الإشارة بقوله: (كنت نبياً) إلى روحه الشريفة، أو إلى حقيقة من الحقائق، والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها، وإنما يعلمها خالقها ومن أمده الله بنور إلهي، ثم إن تلك الحقائق يؤتي الله كل حقيقة منها ما يشاء في الوقت الذي يشاء، فحقيقة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- قد تكون من حين خلق آدم آتاها الله ذلك الوصف، بأن يكون خلقها متهيئة لذلك، وأفاضه عليها من ذلك الوقت، فصار نبياً، وكتب اسمه على العرش، وأخبر عنه بالرسالة ليعلم ملائكته وغيرهم كرامته عنده".
" فحقيقته موجودة من ذلك الوقت وإن تأخر جسده الشريف المتصف بها، واتصاف حقيقته بالأوصاف الشريفة المفاضة عليه من الحضرة الإلهية حاصل من ذلك الوقت، وإنما يتأخر البعث والتبليغ، وكل ما له من جهة الله ومن جهة تأهل ذاته الشريفة وحقيقته معجل لا تأخر فيه، وكذلك استنباؤه وإيتاؤه الكتاب والحكم والنبوة، وإنما المتأخر تكونه وتنقله إلى أن ظهر - صلى الله عليه وآله وسلم-".
"وقد علم من هذا: أن من فسره بعلم الله بأنه سيصير نبياً لم يصل إلى هذا المعنى، لأن علم الله تعالى محيط بجميع الأشياء، ووصف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- بالنبوة في ذلك الوقت ينبغي أن يفهم منه أنه أمر ثابت له في ذلك الوقت، ولو كان المراد بذلك مجرد العلم بما سيصير في المستقبل لم يكن له خصوصية بأنه نبي وآدم بين الروح والجسد، لأن جميع الأنبياء يعلم الله تعالى نبوتهم في ذلك الوقت وقبله، فلابد من خصوصية للنبي - صلى الله عليه وآله سلم-لأجلها أخبر بهذا الخبر إعلاماً لأمته ليعرفوا قدره عند الله تعالى".
وعن الشعبي: قال رجل يا رسول الله، متى استنبئت؟ قال: وآدم بين الروح والجسد، حين أخذ مني الميثاق)[30]
فهذا يدل على أنه من حين صور آدم طيناً استخرج منه محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- ونبئ وأخذ منه الميثاق، ثم أعيد إلى ظهر آدم حتى يخرج وقت خروجه الذي قدر الله خروجه فهو أولهم خلقاً.
لا يقال: يلزم خلق آدم قبله، لأن آدم كان حينئذ مواتا لا روح فيه، ومحمد -صلى الله عليه وآله وسلم- كان حيا حين استخرج ونبئ وأخذ منه الميثاق، فهو أول النبيين خلقاً وآخرهم بعثاً.
فإن قلت إن استخراج ذرية آدم منه كان بعد نفخ الروح فيه، كما دل عليه أكثر الأحاديث، والذي تقرر هنا: أنه استخرج ونبئ قبل نفخ الروح في آدم عليه السلام.
أجاب بعضهم: بأنه - صلى الله عليه وآله وسلم- خص باستخراجه من ظهر آدم قبل نفخ الروح، فإن محمدً - صلى الله عليه وآله وسلم- هو المقصود من خلق النوع الإنساني، وهو عينه وخلاصته وواسطة عقده، والأحاديث السابقة صريحة في ذلك، والله أعلم.
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لم يبعث الله تعالى نبياً من آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد - صلى الله عليه وآله وسلم- لئن بعث، وهو حي، ليؤمنن به ولينصرنه، ويأخذ العهد بذلك على قومه.
وهو مروي عن ابن عباس أيضاً، ذكرهما العماد بن كثير في تفسيره.
وقيل: إن الله تعالى لما خلق نور نبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم- أمره أن ينظر إلى أنوار الأنبياء عليهم السلام، فغشيهم من نوره ما أنطقهم الله به فقالوا: يا ربنا، من غشينا نوره؟ فقال الله تعالى: هذا نور محمد بن عبدالله، إن آمنتم به جعلتكم أنبياء، قالوا: آمنا به وبنبوته فقال الله تعالى: أشهد عليكم؟ قالوا: نعم، فكذلك قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ... )[31] ، إلى قوله: (...وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ )[32].
قال الشيخ تقي الدين السبكي: في هذه الآية الشريفة من التنويه بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم- وتعظيم قدره العلي ما لا يخفى، وفيه مع ذلك: أنه على تقدير مجيئه في زمانهم يكون مرسلاً إليهم، فتكون رسالته ونبوته عامة لجميع الخلق، من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته، ويكون قوله: " وبعثت إلى الناس كافة"، لا يختص به الناس من زمانه إلى يوم القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضاً، ويتبين بذلك معنى قوله - صلى الله عليه وآله وسلم-: (كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد).
ثم قال: فإذا عرف هذا فالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم- نبي الأنبياء، ولهذا ظهر في الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه، وفي الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم.
ولو اتفق مجيئه في زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته، وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم"، انتهى.

ونختم بحديث مسند عبد الرزاق عن سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه (وروى عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: قلت يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء، قال: يا جابر، إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله تعالى، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم، ولا جنة ولا نار، ولا ملك ولا سماء، ولا أرض ولا شمس ولا قمر، ولا جني ولا انسي، فلما أراد الله تعالى أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول حملة العرش، ومن الثاني الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول السماوات، ومن الثاني الأرضين، ومن الثالث الجنة والنار، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين ،ومن الثاني نور قلوبهم -وهي المعرفة بالله-، ومن الثالث نور أنسهم - وهو التوحيد-، لا إله إلا الله محمد رسول الله ... )[33] وذكر العلامة الدردير المالكي إقراره لمعنى الحديث ، فقال : «(ونوره) صلى الله عليه وسلم (أصل الأنوار) والأجسام كما قال صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه : (أول ما خلق الله نور نبيك من نوره) الحديث فهو الواسطة في جميع المخلوقات) [34]، وهو الحديث الذي بدأ به صاحب السيرة الحلبية سيرته.

اللهم صلى وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه




[1] المائدة : 15 – 16
[2] الرمز : 22 
[3] الأعراف : 157
[4] التغابن : 8  .
[5] النور : 40  .
[6] النور : 35  .
[7] المائدة : 15
[8] الأحزاب : 46
[9] الحجرات : 7 
[10] الحافظ السيوطي في الحاوي
[11] سورة النور (35)
[12] سورة البقرة (115 (
[13] النساء (80)
[14] الترمذي الحكيم
[15] سورة الملك
[16] رواه مسلم
[17] رواه مسلم
[18] رواه البخاري
[19] المناوي في فيض القدير
[21] رواه ابن حبان في صحيحه
[22] دوحة الأسرار في معنى الصلاة على النبيّ المختار عام -  1335  -  الطبعة الثالثة عام  - 1981 -  في المطبعة العلويّة بمستغانم - أحمد بن مصطفى بن عليوة المستغانمي.
[23] رواه الترمذي والدارمى وبن كثير في البداية والنهاية
[24] الأحزاب 46
[25] (المائدة 15(
[26] (الكهف 110)
[27] (انظر كشف الخفاء للعجلوني رقم الحديث827
[28] سنن الدارمي
[29] جامع العلوم والحكم
[30] رواه ابن سعد، من رواية جابر الجعفي، فيما ذكره ابن رجب.
[31] آل عمران-80
[32] آل عمران-81
[33] أخرجه الحافظ عبد الرزاق فى مسنده ونقله عنه العلامة الشيخ أحمد القسطلانى- رحمة الله تعالى- فى كتابه: (المواهب اللدنية) وشرحه العلامة الشيخ الزرقانى- رحمة الله- ونقله العلامه الشسخ النبهانى رحمه الله تعالى- فى كتابه (الأنوار المحمدية) ونقله كثير من المحدثين وأرباب السير ونقله الفقيه العلامة الشيخ إبراهيم الباجورى- رضى الله تعالى عنه وكذلك العلامه المحدث الشيخ اغبن حجر الهيثمى- رحمه الله تعالى.
[34] الشرح الصغير، للدردير، ومعه حاشية الصاوي المسماة ببلغة السالك، ج4 ص 778، 779.